ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ قسم الدراسات الدولية
تموز/يوليو 2016
في مقال للكاتب “ياجا مونك”, الباحث في النظرية السياسية في جامعة هارفارد, نشره موقع “بروجكت سانديكيت” في 9/حزيران يونيو/ 2016 قال فيه “إن الديمقراطية المفرطة” هي المسؤولة عن نجاح ترامب. فقد تمت تنحية المؤسسة السياسية جانبا من قبل اليمين المتطرف المناهض للمثقفين والفكر ومن قبل اليسار المتطرف المعادي للنخبوية. وقال أيضاً إن النظم السياسية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية تتميز بمكونين أساسيين. فهي ليبرالية؛ لأنها تسعى إلى ضمان حقوق الأفراد بما فيها حقوق الأقليات المهمشة، وفي نفس الوقت ديمقراطية؛ لأن مؤسساتها تقوم بترجمة وجهات النظر الشعبية اٍلى السياسة العامة. لكن في العقود الأخيرة، تراجعت مستويات المعيشة للمواطنين العاديين وزاد الغضب إزاء المؤسسة السياسية، ولهذا السبب برز صراع بين هذين المكونين الأساسيين للسياسة في الغرب. ونتيجة لذلك، انقسمت الديمقراطية الليبرالية على قسمين، مما أدى إلى شكلين من النظام الجديد: (الديمقراطية غير الليبرالية، أو ديمقراطية بدون حقوق) و (الليبرالية غير الديمقراطية أو حقوق بدون ديمقراطية).
والشعبوية يمكن تعريفها كآيديولوجية، أو فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية. إذ يعتمد بعض المسؤولين على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية. وعكس الشعبوية هو تقديم المعلومات، الأرقام والبيانات بمخاطبة عقل الناخب لا عواطفه. تشتق كلمة الشعبوية من كلمة أخرى ملتبسة هي “الشعب”. (1). وقد قدمت الباحثة “كريستا ديويكس” في دراسة بعنوان “الشعبوية” استعراضا لتطور المفهوم النظري في الأدبيات المختصة. وحسب هذه الدراسة، فإن الميزة الأساسية لهذه الحركات هي إيمانها بمحورية دور الشعب في العملية السياسية، التي يجب أن تعكس بشكل مباشر الإرادة الشعبية. ولذلك، فإن لدى هذه الحركات معارضة ونفور من النخب والمؤسسات السياسية المختلفة التي تقف حائلا بين هذه الإرادة الشعبية، وتحقيق أهدافها. ويري الكثير من المحللين أن ظهور الحركات الشعبوية يعد إفرازاً طبيعيا للنظام السياسي الديمقراطي نفسه، إذ إنها مرتبطة بحركة الشد والجذب بين وجهي الديمقراطية, الوجه “البراغماتي”، الذي تمثله المؤسسات الديمقراطية من أحزاب وانتخابات وجماعات ضغط، والتي يتم صنع القرار فيها من خلال توافقات وتفاعلات أعداد كبيرة من الفاعلين السياسيين. والوجه “المثالي”، الذي تمثل فيه الديمقراطية طريقا لحياة أفضل من خلال تحقيق إدارة الشعب لأموره، وتنفيذ إرادته في تحديد مستقبله(2).
ويعزو الكثير من المحللين تصاعد قوة ونفوذ الحركات الشعبوية خلال السنوات القليلة الماضية، في أوروبا والولايات المتحدة نفسها، إلي تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة. وقد أشارت دراسة عن القطاع البنكي والأزمة المالية العالمية إلى أثر هذه الأزمة في خلق فجوة من عدم الثقة بين المجتمعات الغربية ونخبها الاقتصادية والسياسية. وما فاقم من الأزمة السياسية بين النخب والشعوب الغربية، اضطرار معظم الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات تقشفية شديدة للتعامل مع أزمتها المالية الحادة. وقد أظهرت دراسات حديثة أن نسبة ديون هذه الحكومات قد بلغت معدلات غير مسبوقة وغير محتملة. وهناك ثلاثة حالات ربما تعطينا تصورا لهذه الحركات الشعبوية من خلال التحركات السياسية المعاصرة, وهذه الحالات تؤشر في الأساس على الخلل الموجود في البنية الفوقية للنظم السياسية العالمية بشكل عام, والنظم السياسية الغربية بشكل خاص, “بوصفها أنموذجا للديمقراطيات الحديثة”.
الحالة الأولى: ظاهرة الانتخابات الأمريكية التي انتجت المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري “دونالد ترامب” الذي يمثل التيار الشعبوي داخل الولايات المتحدة, ومعاداته للمسلمين والعرب وغير الأمريكيين بشكل عام، وهناك مخاطر داخلية وخارجية على الولايات المتحدة الأمريكية أزاء هذا الأمر. وقد استغل ترامب بعض شقوق الوجه الأول للديمقراطية الأمريكية “الوجه البراغماتي” لصالح الوجه الثاني ولصالح التيار المتشدد والمعادي لغير الأمريكيين في حملته الانتخابية.
الحالة الثانية: ليست بالبعيدة عن الحالة الأولى؛ لأن التيار الشعبوي في أوروبا, وبالتحديد في بريطانيا، استغل هذا الشعور الديمقراطي (أي استغلال شقوق الوجه الديمقراطي الأول لصالح الوجه الديمقراطي الثاني), في تعبئة جماهيره لتأييد فكرة الخروج عن الاتحاد الأوروبي, وهذا ماحدث بالفعل, وهي البوادر الأولى لنجاح التيارات الشعبوية واستغلالها لشقوق الديمقراطية الحديثة, التي أخذت تمثل طبقة الأغنياء والشركات العابرة للحدود, والمصارف التجارية. فقد استغل التيار الشعبوي البريطاني (ديمقراطية الاتحاد الأوروبي وبيروقراطيته الشديدة) التي خذلت الطبقات الوسطى والطبقات الواسعة في أوروبا, ليعيد بذلك إحياء الشعور القومي وصعود الأحزاب الشعبوية واليمينية التي تريد العودة إلى الدولة الوطنية رغم التبعات الاقتصادية السلبية لذلك. ولهذا يمكن أن تكون صعود التيارات الشعبوية “ديمقراطية مفرطة في تلك البلدان”؛ وذلك بسبب التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعود كنتائج سلبية عليها “البلدان الأوروبية”؛ بسبب حالات الكراهية والعنصرية التي تهدد البنية الاجتماعية للدول الغربية اتجاه العالم الآخر, كذلك التداعيات الاقتصادية التي تضرب تلك الدول نتيجة هذا الخطاب السياسي, أو التي تضرب بريطانيا “على سبيل المثال” ودولا أخرى إذا ما أعادت مفهوم الدولة القومية وخرجت بعض دول الاتحاد من المجموعة الأوروبية بأثر نظرية “الدومينو”، ولاسيما أن هناك حراكا شعبويا داخليا في فرنسا وهولندا مؤيد لفكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
الحالة الثالثة: حالة الشرق الأوسط, والحالة العراقية على وجه التحديد؛ وذلك بسبب الفشل الديمقراطي للنخبة السياسية الحاكمة وتداعيات الأزمة المالية الحالية, وتغيب الروح الوطنية بعد العام 2003 “تغيب مفهوم الدولة الوطنية”, والإجراءات التقشفية التي فرضتها الحكومة العراقية بعد انخفاض أسعار النفط العالمية على قطاع الخدمات والصحة, مع استحداث ثقافة الضريبة “المبهمة في مجتمعاتنا” نتيجة الفشل السياسي والاقتصادي, والبعيدة عن ثقافة المجتمع العراقي, ومع تزايد حالات الفقر وغياب الأمن. وإن تزايد السخط الشعبي وحركة الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات, ربما تعطي أو أعطت مؤشرات على ظهور تيارات شعبوية مناهضة للطبقة السياسية الحالية ومعادية للدول الإقليمية والعالمية التي أفسدت العملية السياسية بعد العام 2003؛ وذلك لأن التغيرات الحاصلة في العالم اليوم هي نتيجة لتفاقم الأزمات السياسية بين النخب والشعوب الغربية التي اضطرت معظم حكوماتها لاتخاذ إجراءات تقشفية شديدة للتعامل مع أزمتها المالية الحادة, التي تذكرنا باللازمة السياسية العراقية المستمرة التي فاقمتها الأزمة المالية الحالية والإجراءات التقشفية, وتوقف المشاريع الخدمية والصحية, التي أدت إلى الاستياء الشعبي المرافق للتردي الأمني والاقتصادي, والتفكك الاجتماعي وتزايد حالات الفقر. وقد أظهرت دراسات حديثة أن نسبة ديون الحكومات الغربية قد بلغت معدلات غير مسبوقة وغير محتملة،“فقد ارتفعت نسبة عجز الموازنة الفيدرالية في الولايات المتحدة من 1.2% من الناتج القومي عام 2007 إلي نحو 9.9% من الناتج القومي عام 2009، بما يوازي 1.4 تريليون دولار. ومن المنتظر أن تبلغ نسبة إجمالي الدين الأمريكي إلي إجمالي الناتج القومي 344% بحلول عام 2050، وأن تبلغ هذه النسبة 337% بالنسبة لفرنسا، و 221% بالنسبة لألمانيا، و 560% بالنسبة لبريطانيا بحلول العام ذاته”. ومن المتوقع أن العراق قد يلحق بهذه الدول ويصبح دولة مديونة في المستقبل القريب. وعليه، فإن الحكومات تواجه خيارات كلها صعبة علي المستوى السياسي، وهي تنحصر في رفع معدل الضرائب أو تخفيض الإنفاق الحكومي علي الخدمات الاجتماعية والصحية أو الاثنتين معا. وجميعها سوف تزيد من مستوى الغضب الشعبي، وعدم الثقة في النخب الحاكمة، وبالتالي ازدهار الحركات “الشعبوية”.وهذا بحد ذاته قد ينذر بتغيرات وتحولات في بنية العالم المعاصر وأنظمته السياسية, وبنية النظام السياسي الدولي؛ لأنه عندما تعجز العملية السياسية أو النظم السياسية عن تحقيق عالم “أفضل وأكثر عدالة” للشعوب، أو عندما ترفض النخبة الحاكمة تحقيق الإرادة الشعبية، تظهر الحركات الشعبوية التي تسعى إلى استبدال النخب السياسية بنخب أخرى أكثر تحقيقا لإرادتها. وفي هذا الإطار، فإن ظهور هذه الحركات مؤشر علي وجود خلل في العملية الديمقراطية، يجب على النخب أن تنتبه إليه وتتعامل معه. ويتميز الخطاب الشعبوي بالتبسيط الشديد لقضايا معقدة، حيث إنه يتوجه إلى رجل الشارع العادي، كما يتميز بطغيان الجانب العاطفي، إذ إن هذه الحركات تتغذى علي مشاعر الغضب والخوف عند عامة الناس. يقوم هذا الخطاب أيضا على وجود حالة من الاستقطاب بين “الشعب” الذي تمثله الحركة، وطرف “آخر” يشكل هدفا للوم والغضب، بوصفه السبب في المشاكل التي يعانيها الأول. وهذا التصّور والسيناريو هو نفس السيناريو الحالي الذي يدور في الشارع العراقي متمثلا بالاحتجاج والتظاهر والغضب على النخب السياسية, فضلاً عن أن أغلب الجماهير المحتجة على تردي الوضع, جماهير تقودها العاطفة والاستهواء “الديماغوجية” وتدفعها حالة الانتقام من القوى السياسية التي عجزت عن تحقيق إرادة الشعب. والمتتبع لخطاب الحراك الشعبي العراقي يستنتج هذا الخطاب أعلاه (أي إنه خطاب يتوجه إلي رجل الشارع العادي، كما يتميز بطغيان الجانب العاطفي، إذ إن هذه الحركات تتغذى على مشاعر الغضب والخوف عند عامة الناس), وإن بعض هتافات المحتجين العراقيين والاحتجاجات التي هتفت ضد إيران والسعودية وتركيا والولايات المتحدة, هي هتافات شعبوية هدفها استعادة الروح الوطنية واحترام الدولة القومية، وهو نفس الخطاب الذي يوظفه “دونالد ترامب” في حملته الانتخابية, ونفس الخطاب الذي استغله التيار الشعبوي في بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي, وربما تستغله بعض التيارات الشعبوية الأوروبية كذلك لإعادة التفكير بمفهوم الدولة القومية, ولاسيما إذا ما تعثر إصلاح الاتحاد الأوروبي داخليا وخارجياً. وتظهر هذه الحركات بشكل عام أثناء فترات الاضطراب والتغيير، سواء كانت أزمة اقتصادية لها تداعيات اجتماعية واسعة، أم بسبب سيطرة نخبة فاسدة تهتم بتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة، كما قد تظهر في حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية. وكثيرا ما تصّعد هذه الحركات قيادات سياسية جديدة تتميز بالكاريزما والجاذبية، تنجح في إقناع أنصارها بأن وصولها إلى الحكم سوف يؤدي إلى تحقيق الإرادة الشعبية الحقيقية.
وعادة ما تكون احياء التيارات الشعبوية نتيجة الظلم الاقتصادي الذي يلحق بطبقات واسعة وعريضة في المجتمع, نتيجة الفساد السياسي والمالي. وقد رصد روبرت ريش “وزير العمل الأمريكي الأسبق، وأستاذ السياسات العامة بجامعة كاليفورنيا”، في مقاله “صعود الشعبوية”، مظاهر وأسباب تصاعد الغضب الشعبي ضد النخبة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. ويبرز ريش في هذا المقال ازدياد الفجوة في الدخل والنفوذ بين النخبة والطبقة المتوسطة الأمريكية، وما يراه تواطؤاً بين النخب السياسية والاقتصادية يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمصالح الأساسية للطبقة المتوسطة، ويحد من قدرتها على تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي, مع إحساس الطبقة الوسطى بالحرمان النسبي. وإذا ما أخذنا الشعبوية بمفهومها الغربي والأسباب التي أدت إلى ظهورها, تذّكرنا بالنتائج والأسباب التي يوظفها ويرفع شعاراتها المتظاهرون والمحتجون العراقيون في تظاهراتهم, فضلاً عن عامة الشعب بشكل عام. ولهذا لابد لصانع القرار العراقي أن يلتفت لهذا التغيرات في بنية المجتمع العراقي, ويبادر إلى الإصلاح السياسي الشامل.
بناء على ما تقدم، هل يمكن أن نشاهد تيارات شعبوية عراقية رافضة لواقع العملية السياسية الحالية وسوء إدارة الدولة, ورافضة للفجوة العميقة بين النخب السياسية الحاكمة والشعب, على غرار التيارات الشعبوية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية؟. الامر متروك لتطورات الاحداث المستقبلية القريبة في هذا البلد.
——————————-