الكاتب: مؤيد جبار حسن
باحث في قسم الدراسات الدولية
مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء
أيار-مايو 2017
في خلال لقاء جمع الرئيسين الامريكي السابق باراك اوباما والفرنسي فرانسوا هولاند، حذرا من أخطار القومية (الفظة)، وتخوفا، في الوقت نفسه، من تصاعد (النزعة القومية) و(الانغلاق) في أوروبا والعالم. تصريحات كهذه تؤشر حجم التحديات التي تواجه العالم واوروبا وامريكا بالذات.
جاءت هذه التحذيرات في ظل تطورات دولية في مقدمها الطابع (اليميني المتشدد) الذي طبع الادارة الامريكية الجديدة لدونالد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي الذي تلقى المسؤولية عنه الى أقصى اليمين، ومع اجراء الانتخابات الرئاسية في فرنسا التي حقق اليمين المتطرف فيها متمثلا بحزب (الجبهة الوطنية) نتائج متقدمة.
وحذر هولاند من هيمنة النزعة القومية والانغلاق، داعيا الى الاتحاد، وتساءل:” ما هو الحل؟ هيمنة الليبرالية؟ هيمنة التسلط؟ أنا مع السلطة لكن التسلط ليس سلطة، بل تعسف وأنكار التنوع وخطر يهدد باندلاع النزاعات”.
اما اوباما فقد حذر من التصاعد (الفظ) للقومية او الهوية الاثنية او القبلية، وقال: نحن نعلم ما يحدث عندما يبدأ الاوربيون في الانقسام على أنفسهم … شهد القرن العشرون سفك دماء. وأضاف: ان الولايات المتحدة تدرك كذلك مدى خطورة الانقسام على أسس عنصرية أو عرقية او دينية.[1]
وبرأينا أنه ليس تطرفا من جانب الرئيس الامريكي الجديد، دونالد ترامب، وليس شعارا انتخابيا سعى به لنيل كرسي الحكم في أعظم دولة، عندما رفع شعار ” أمريكا اولا “. أنه مزاج فكري جديد ظهرت بعض اقوى بوادره مع مؤيدي المرشح الجمهوري.
وتعهد دونالد ترامب بـ “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” وبهذا كان يردد شعار حملة رونالد ريغان عام 1980، حين وصف ريغان أمريكا كـ “مدينة على تلة”. ودعا إلى ان تسهم بلاده في الحفاظ على الأمن في العالم، ويكون لها دورا خارجي مؤثر. لكن السيد ترامب، على النقيض من ذلك، حين أقسم على وضع أمريكا أولا. وكأن الولايات المتحدة في زمن ريغان كانت متفائلة، وفي زمن ترامب غاضبة.
أنها حقبة صعود القومية الاعنف منذ الحرب العالمية الثانية، والتي اقترنت باليمين في اوربا لتنتج احزاب غاية بالشوفينية، لكنها رغم المنتقدين، تتمتع بشعبية كبيرة قد توصلها إلى سدة الحكم.
فمثلا، في بريطانيا (حزب استقلال بريطانيا) وهو حزب تأسس عام 1993 وأستطاع ان ينافس احزاب المملكة العريقة، والذي لعب زعيمه دورا اعلاميا كبيرا في خروج بلاده من الاتحاد الاوربي.[2]
وعند محاولة تقصي معنى القومية، تبدو الاخيرة مفهوما مرنا، ولهذا السبب نجد ان من السهل على بعض السياسيين ان يتلاعبوا به. ويجب ان لا ننسى ان القومية في أفضل حالاتها، كمفهوم يوحد البلاد حول القيم المشتركة لإنجاز الأشياء التي ليس بمقدور الناس تحقيقها منفردين. هذه “القومية المدنية” التصالحية، كما يدعوها البعض، والتي تنشد القيم العالمية مثل الحرية والمساواة. وهي تتناقض مع “القومية العرقية”، والتي محصلتها صفر، وفيها قدر من العدوانية، والحنين إلى الماضي وتعتمد على العرق أو التاريخ لتعيين أمة بذاتها. وأدت هذه القومية في أحلك ساعاتها في النصف الأول من القرن العشرين إلى الحرب.
ومن الامثلة الدولية الاخرى على تفشي القومية، في روسيا، تجنب (فلاديمير بوتين) القيم الليبرالية العالمية لصالح مزيج روسي واضح من السلافية التقليدية والمسيحية الأرثوذكسية. وفي تركيا تحول (رجب طيب اردوغان) بعيدا عن الاتحاد الأوربي ومن محادثات السلام مع الأقلية الكردية، لصالح القومية الحادة والإسلامية والتي وجهت الشتائم والتهديدات الى الخارج. وفي الهند لايزال (نارندرا مودي) خارجا عن المظهر والتحديث، إذ لديه علاقات مع جماعات هندوسية عرقية قومية متطرفة تدعو للشوفينية والتعصب.
وفي الوقت نفسه، أصبحت القومية الصينية غاضبة ومنتقمة لدرجة ان الحزب الشيوعي المركزي يكافح للسيطرة عليها. صحيح، ان البلاد تعتمد على الأسواق المفتوحة، وبعض المؤسسات العالمية وتريد أن تكون قريبة من الولايات المتحدة. ولكن منذ عام 1990 فصاعدا اصبحت المدارس تتلقى جرعات يومية من التعليم “الوطني” من بعض مهامه محو قرن من الاحتلال المذل.
ويبدو ان ازدهار القومية العرقية، يؤشر تعثر أعظم تجربة في العالم في “ما بعد القومية”. أي فكرة الاتحاد الاوربي، إذ يعتقد مهندسوه انه لولا التخلي عن القومية، التي جرت أوربا إلى حربين عالميتين مدمرتين، لذبل الاتحاد ومات. ان الاتحاد الاوروبي تجاوز المنافسات الوطنية مع مجموعة من الهويات المتداخلة التي يمكن أن تكون كاثوليكية، فرنسية وأوربية. ومع ذلك، في أجزاء كبيرة من الاتحاد الأوربي هذا لم يحدث أبدا. فقد صوت البريطانيين على المغادرة وفي الدول الشيوعية السابقة، مثل بولندا والمجر، لازال للقوميين شان كبير.
آخر مرة انكفأت أميركا الى الداخل بعد الحرب العالمية الأولى وكانت نتائج ذلك كارثية. لذا فالمخاوف من قومية السيد ترامب الجديدة اليوم، مبررة. فهو يميل إلى إنتاج التعصب وتغذية الشكوك حول الفضيلة وولاء الأقليات.
ويبدو ان هناك دولا ستحذو حذو الولايات المتحدة وتنكفئ داخليا، وسوف تصبح المشاكل الإقليمية والعالمية من الصعب حلها. ومن اولى تجليات هذا الكابوس انسحاب ثلاث دول افريقية من التجمع السنوي للمحكمة الجنائية الدولية. كذلك لدينا مطالبات الصين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي لا تتفق مع اتفاقية قانون البحار. والنزعة الاقتصادية في خطاب السيد ترامب تهدد بانتفاء الحاجة لمنظمة التجارة العالمية. كما ان تهديد الرئيس الامريكي لحلفاء بلاده، على خلفية فشلهم المزعوم في دفع ثمن الحماية والامن التي يتلقونها، مهددا بالانسحاب من هذا الدور. والنتيجة، خصوصا بالنسبة للبلدان الصغيرة، والتي تحميها القواعد العالمية، سيكون العالم بالنسبة لها أكثر قسوة وأكثر اضطرابا.[3] والكلام يخص الدول العربية (الخليجية بالذات) والتي تعد دولا غنية بالبترول وضعيفة في نفس الوقت.
وقد أثبت انتخاب ترامب المفاجئ قطيعة سياسية مع ما مضى، واعتبر نموذجا ملهما للمرشحين اليمينين المتطرفين في أوروبا، حيث أن بعض البلدان تستعد للانتخابات الكبرى. مثل هولندا (آذار)، وألمانيا (أيلول). بعض هذه الجماعات اليمينية كانت موجودة قبل ترامب لكنها ربطت نفسها بشكل أكثر إحكاما إلى القومية، لركوب موجة الانتصار...
فمثلا، السيدة مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية، صاحبة سياسات مكافحة العولمة ومكافحة الهجرة، أشادت بفوز ترامب واعتبرته أمل جديد.[4] وقد وعدت لوبان بـ “استعداد” فرنسا بالانسحاب من الاتحاد الأوربي، وهى خطوة اشاد بها ترامب كما فعل عندما صوتت بريطانيا العام الماضي على مغادرة الاتحاد الاوربي مما قد يؤدي الى انهياره. في حين وصفت شخصيات أخرى في الاحزاب الوطنية الأوربية في هولندا والمجر واليونان فوزه كعلامة إيجابية على الأمور القادمة.
ويبدو ان ترامب أصبح قبلة القوميين الذي يشد له السياسيين الرحال، فشخصيات من اليمين المتطرف في أوربا، بما في ذلك جيرت فيلدرز، مؤسس الحزب الهولندي للحرية، ونايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة، الذي قاد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، كان لهم لقاء مع ترامب في واشنطن، وقيل ان ماتيو سالفيني، زعيم الرابطة الشمال الإيطالية (أكبر حزب يميني متطرف)، عرض مساعدة ترامب على توسيع دعمه في اوروبا.
لكن ما علاقة الشعبوية بالقومية؟ وهي غالبا ما تستخدم بصورة تبادلية، فهي في الواقع مختلفة بشكل واضح. وبحسب بارت بونيكوسكي، الأستاذ المساعد لعلم الاجتماع في جامعة هارفارد، الذي يدرس الحركات الشعبية والحكومية: “إن الشعبوية هي وسيلة لتقديم مطالبات سياسية تعارض” النخب الفاسدة “ظاهريا ” ومع “الشعب الفاضل“.
ولأن الشعبوية أقل من ان تدعى إيديولوجية، هي أقرب الى ان تكون شكل من أشكال الخطاب السياسي، وهي غالبا ما تعلق على مجموعة متنوعة من الأيديولوجيات السياسية، بما في ذلك القومية. وقال بونيكوسكي ” انها اساسا استراتيجية لحشد الدعم السياسي لأي أهداف سياسية قد تكون كما يحدث ذلك في أوروبا والولايات المتحدة وأماكن أخرى. اكتسبت الشعبوية الملحقة بالقومية العرقية زخما. ولكن هذا لا يعني أن الأمرين هما نفس الشيء أو أنهما لا يحدثان إلا مع بعضهما البعض”.[5]
صعود القومية ربطه الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلينتون بتصاعد النزعة القومية في العالم خلال السنوات الخمس الماضية، وهذا من وجهة نظره يحاكي الصراع داخل اسرائيل الذي ادى الى مقتل رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين. وقال كلينتون الذي كان يتحدث في معهد بروكينغز في واشنطن ان اغتيال رابين كان من اسوأ ايام رئاسته، مشيرا الى ان النزاع بين اليسار واليمين في اسرائيل ادى الى مقتل رابين كان “نموذجا مصغرا” من صعود القومية.
وقال كلينتون عن النزعة القومية في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا: “إنها صفقة عالمية، وكأننا جميعا نواجه أزمة هوية في وقت واحد”. واضاف “ان ما حدث قبل 20 عاما هو صورة مصغرة لما سينمو تماما اليوم، وهذه الامور ستكون بحاجة الى العمل”.[6]
أصبحت أمريكا بوصلة لتحديد الاتجاهات العالمية. ولكن قبل وقت طويل من تعهد دونالد ترامب بـ”جعل أمريكا عظمى مرة أخرى”، كانت الصين وروسيا وتركيا قد أنشأت بالفعل التوجهات الوطنية. فكان ان تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ بـ “تجديد شباب الشعب الصيني” عام 2012. وفي العام نفسه، عاد فلاديمير بوتين إلى الكرملين رئيسا، وشرع في مشروع وطني يتلخص في “جعل روسيا عظمى مرة أخرى”. اما تركيا، ففي الوقت نفسه، بات الرئيس رجب طيب أردوغان يسعى الى ايجاد إلهام وطني من أمجاد الإمبراطورية العثمانية.
وتعد المناخات السياسية في الصين وتركيا وروسيا تحذيرا واضحا من مخاطر عودة القومية. في البلدان الثلاثة، هناك توق إلى استعادة العظمة الوطنية بحملة تروج لها الحكومة ضد قوى خارجية معادية، والتركيز على “الأعداء” غير الوطنيين.
إن مؤسسات أميركا القوية والصحافة الحرة سوف تجعل من الصعب على القومية الترامبية أن تقمع المعارضة السياسية المحلية، بطريقة الرؤساء (بوتين) أو (شي) أو (أردوغان). ولكن الفكرة القائلة بأن الديمقراطيات محصنة امام إحياء الحنين للوطنية هي كاذبة بشكل واضح بمجرد إلقاء نظرة على اليابان والهند والمجر وبريطانيا.
إذ في اليابان يقود (شينزو آبي) رئيس الوزراء هناك حملة نشطة من أجل النهوض بالوطنية. وقد استشهد باستعادة امجاد القرن التاسع عشر، التي جعلت اليابان قوة رائدة في آسيا، كمصدر إلهام له.
اما في الهند، فيقوم رئيس الوزراء (نارندرا مودي) بقيادة الحركة الوطنية الهندوسية التي تسعى لتحديث الهند عبر استذكار الفخر الهندوسي في الماضي المجيد (وأحيانا الاستعانة بالأساطير).
وفي المجر، يتطلع رئيس الوزراء (فيكتور أوربان) هو قومي بحماس إلى الأراضي التي خسرتها بلاده بعد الحرب العالمية الأولى.
ولعبت القومية دورا في قرار خروج بريطانيا عن الاتحاد الأوربي. مع تصاعد حملة النداء لـ”بريطانيا العالمية” واسترجاع ذكريات الماضي الذي كانت فيه المملكة المتحدة قوة عالمية مهيمنة، وليس مجرد عضو في ناد يضم 28 دولة أوروبية.
مجمل الرؤية؛ ان دولا كروسيا والصين والولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان والهند قامت مؤخرا باحتضان ورعاية أشكال من القومية، ومن المرجح صعود هذه الظاهرة في كل مكان، وان كانت بشكل غير ملحوظ. ولم تتبع معظم الديمقراطيات الغربية الراسخة هذا الاتجاه، ولم تستسلم كندا وأستراليا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي للقومية. ففرنسا كانت قبل الانتخابات معرضة للخطر: جبهة المرشحة (لوبان) وحزبها مثال كلاسيكي للحزب الوطني القومي. ولكن على الجانب الآخر من نهر الراين، من الصعب تصور أي حزب يرفع شعار “جعل ألمانيا عظمى مرة اخرى”.
ورغم ان القومية في العديد من البلدان لا تزال قوة جديدة. يرى البعض ان في بريطانيا والولايات المتحدة، كان السياسيون أكثر نجاحا، فقد تحدث بيل كلينتون عن بناء “جسر للقرن الحادي والعشرين” وتبنى باراك أوباما حملة “الأمل والتغيير”. في بريطانيا، تحدث توني بلير عن استعادة بريطانيا، في حين أن ديفيد كاميرون تماهى أكثر مع المجتمع المعاصر. حتى روسيا، قبل عهد بوتين، بدت أكثر اهتماما في زرع مستقبل جديد بعيدا عن إعادة أمجاد الإمبراطورية الماضية.[7]
نستدل مما ذكر سابقا، ان القومية في حالة صعود، وتُغذيها في ذلك جملة من الامور منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي واقتصادي. ويقابلها في العالم العربي، الحنين الى الماضي الاسلامي للامة العربية، وكيف ان تيارات فكرية نهضت، وبتطرف، رافعة راية الخلافة، لدرجة حملت السلاح بوجه الانظمة والحكومات والدول القومية، العدو الافتراضي لها.
[1] جريدة الشرق الاوسط، الرابط: http://aawsat.com/home/article/
[2] http://www.bbc.com/arabic/worldnews/2016/07/160704_nigel_farage_stands_down
[3] http://www.economist.com/news/leaders/21710249-his-call-put-america-first-donald-trump-latest-recruit-dangerous
[4] https://arabic.cnn.com/world/2016/11/16/wd-161116-marine-le-pen-trump
[5] http://news.harvard.edu/gazette/story/2017/02/in-europe-nationalisms-rising/
[6] http://edition.cnn.com/2017/03/09/politics/bill-clinton-yitzhak-rabin-world/
[7] https://www.ft.com/content/198efe76-ce8b-11e6-b8ce-b9c03770f8b1