بقلم: ا.م.د خالد عليوي العرداوي
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء
حزيران-يونيو 2017
يبدو ان القيادة الكوردية في إقليم كردستان العراق بقيادة السيد مسعود بارزاني قد حسمت أمرها في الذهاب الى اجراء استفتاء غير ملزم في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر-أيلول القادم حول انفصال الإقليم عن الدولة العراقية المعترف بها دوليا، كخطوة في طريق الاستقلال وتأسيس دولة كردية مستقلة، في وقت تشهد فيه هذه القيادة جدلا واسعا حول شرعية وجودها الدستوري وتمثيلها الحقيقي لكل تطلعات الشعب الكوردي، ولكن، في هذا الوقت بالذات، هل الاستفتاء هو أفضل الخيارات السياسية المتاحة امام هذه القيادة؟ وماذا لو كانت تسير في طريق خاطئ؟
بيئة إقليمية ودولية غير داعمة
بمجرد اعلان توقيت الاستفتاء برزت مواقف رسمية عدة غير مرحبة به، فالحكومة العراقية الاتحادية وعلى لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي؛ رفضته كونه خطوة مستعجلة ستثير حفيظة الكثير، وتقود الى التراجع في جميع الاستحقاقات والنجاحات التي حققها الإقليم، وقال سعد الحديثي المتحدث الرسمي باسم رئاسة الوزراء: “أي موقف أو خطوة تتخذ من أي طرف في العراق يجب أن تكون مستندة الى الدستور وأي قرار يخص مستقبل العراق المعرف دستوريا بأنه بلد ديموقراطي اتحادي واحد ذو سيادة وطنية كاملة يجب أن يراعي النصوص الدستورية ذات الصلة”، وأضاف: “مستقبل العراق ليس خاصا بطرف واحد دون غيره، بل هو قرار عراقي وكل العراقيين معنيون به…لا يمكن لأي طرف وحده أن يحدد مصير العراق…”.
دوليا، اعلنت الخارجية الامريكية يوم الخميس الثامن من حزيران انها تؤيد “عراقا موحدا فدراليا مستقرا وديمقراطيا”، ودعت سلطات الإقليم الى الحوار مع الحكومة الاتحادية من اجل حل مختلف القضايا؛ كون الأولوية في الوقت الحاضر تتمحور حول محاربة الإرهاب وهزيمة تنظيم داعش. وبالمثل فعلت الخارجية الألمانية، عندما قال (زيغمار غابرييل) وزير خارجيتها: بأن ” إعادة رسم حدود الدولة ليس هو الطريق الصحيح، وقد يؤدي الى تفاقم الموقف الصعب والمضطرب أصلا في أربيل وبغداد”، ودعى الطرفين (بغداد واربيل) الى الحوار لحل مجمل الخلافات بينهما، وأضاف: ” لم يتحقق النصر بعد في الحرب ضد التنظيم(داعش) ومعا فقط نستطيع اتخاذ الخطوات التالية والتي ربما تكون الأكثر أهمية في التعامل مع التحديات المقبلة”.
هذا الموقفان الرافضان والمحذران من خطوة القيادة الكردية جاءا من حليفين مقربين لها وهما واشنطن وبرلين. اما الموقف الأكثر حزما فقد جاء من الخارجية التركية المعنية جدا بهذا الموضوع، اذ عدت ” الحفاظ على العراق ووحدته الجغرافية والسياسية من المبادئ الأساسية للسياسة التركية”. كذلك فعلت الخارجية الإيرانية على لسان المتحدث الرسمي باسمها (بهرام قاسمي)، مبينة رفضها ” اجراء الاستفتاء في إقليم كوردستان”؛ كون ” الكورد جزء مهم من العراق في إطار السيادة الوطنية ووحدة التراب العراقي، ولديهم حقوق في الدستور، فلا يمكنهم ان يعادوا السيادة الوطنية ووحدة التراب العراقي ورفضها”، كما أكد (قاسمي) نية إيران الصريحة في الدفاع عن وحدة وسيادة التراب العراقي.
عموما لا نظن ان مواقف بقية الأطراف الدولية والإقليمية ستختلف عن هذين الموقفين: الأمريكي والألماني من جهة، والتركي والإيراني من جهة أخرى، بل سوف تتأرجح بينهما، الا انها سيجمعها الرفض الصريح او الضمني للخطوة الكوردية، وهذا يجعل خيار الاستفتاء في حال المضي فيه الى النهاية خيارا استفزازيا للمحيطين الإقليمي والدولي مما يفقده زخمه وشرعيته بشكل واضح.
طموح عنصري
من الأخطاء التي ترتكبها القيادة الكوردية في الإقليم هو انها تريد اختزال تطلعات شعبها في اهداف عنصرية محضة، فهي تريد تأسيس دولة للقومية الكوردية في المناطق التي يشكل فيها الكورد غالبية السكان؛ لكون هذه الدولة هي استحقاق قومي لهم تم التجاوز عليه لأسباب تاريخية وسياسية كثيرة، لذا هم لا يعترفون بوجودهم في الكيان السياسي القانوني للدولة العراقية القائمة الان، وان الدولة الكوردية المنشودة في حالة قيامها ستحقق لهم احلامهم في الديمقراطية والرفاه والكرامة الاجتماعية…
ان القيادات السياسية في الإقليم تتناسى او تغفل عن أمور كثيرة في خطابها هذا منها:
– انها كانت تعارض سياسات البعث ودعوات القومية العربية بحجة انه: كيف يمكن العيش في دولة خطابها السياسي يستهدف سيادة وتحكم قومية واحدة ببقية القوميات؟ بمعنى كيف يشعر الكورد بانتمائهم لدولة عراقية تسعى قيادتها السياسية الى تسييد حكم العرب؟ وهذه الحجة منطقية وصحيحة، فالبلد المتنوع الإثنيات يجب ان يتشارك الجميع بحكمه، دون سيادة لقومية على أخرى، او دين او مذهب على اخر، فالسيادة الحقيقية: هي للشعب ممثلا بجميع مكوناته. ولكن هذه الحجة المتينة تختفي عندما تطالب القيادة الكوردية العراقية اليوم بتأسيس دولة تكون السيادة فيها للعنصر الكوردي.
-ان ما كان يرهق الكورد ومعهم بقية مواطنيهم العراقيين هو الاستبداد وغياب الديمقراطية، وان دعم التجربة الديمقراطية في العراق اليوم وترسيخها وتطويرها سيحقق هدف الجميع بحياة أفضل، فلا داعي للحديث عن الاستقلال طالما ان الامل موجود بإقامة الديمقراطية، وطالما يظهر من التحليلات والبيانات الواردة من الإقليم ان معاناة سكانه اليوم ليس سببها وجودهم في العراق، بل سببها عقلية الاستبداد والاستبعاد والفساد المستشري في مفاصل مؤسساتهم الدستورية.
– ان أي دولة تؤسس على أساس قومي لن تجلب الراحة والاستقرار لشعبها، هذا ما كشفته تجارب الشعوب الأخرى، وتجارب بلادنا القريبة، وان أي دولة تؤسس للكورد ستكون دولة عنصرية يغلب عليها الاستبداد السياسي بحجة الطموح القومي.
– ان الدول الحديثة منذ مؤتمر ويستفاليا عام 1648م والى اليوم لم تكن في الغالب خيارا ومزاجا شعبيا، بل هي ناجمة عن تطور تاريخي في النظام الإقليمي والدولي، وهذه الدول تكتسب مشروعيتها من بنية النظام المؤسس لها، ومن بين هذه الدول الدولة العراقية القائمة اليوم بحدودها الجغرافية المعروفة، فليس من حق القيادة الكوردية عدم الاعتراف بهذه الدولة بحجة الظلم التاريخي القومي، فلو رجعنا الى ملفات التاريخ سنجد كل الدول القائمة اليوم تدعي لها حقوقا وحدودا تتجاوز كياناتها السياسية القانونية، والتسليم بهذه الحجة يعني دعوة صريحة الى تهديم النظام الدولي برمته وتأسيس نظام جديد محله، اذ ليس من العدل ان تقتصر دعوة الهدم على دول بعينها وتستثنى دولا أخرى مهما كانت الأسباب.
– الدولة الكوردية في حال تأسيسها لن تكون عامل استقرار وسلام في الشرق الأوسط، فليس من حق الكورد في العراق (في حال التسليم بحجة قيادة الإقليم) ان تكون لهم دولتهم المستقلة، ولا تكون مثل هذه الدولة متاحة للكورد في تركيا وايران وسوريا، بل ربما ولا تكون متاحة لجميع القوميات الأخرى، وعندها لن تسكت بقية دول جوار العراق (حتى لو قبلت حكومة بغداد) بوجود عامل مزعزع لأمنها واستقرارها مثل الدولة الكوردية، وستحرك كل إمكاناتها لتدميرها وتحويلها الى وبال ونقمة على المطالبين بها، وهذا يعني اجهاض كامل لحلم الامن والسلام والحياة الكريمة الذي تمناه الكورد العراقيون طوال تاريخهم.
قيادة تدفع مواطنيها الى مستقبل غامض
ان المسؤولية الاستراتيجية الملقاة على عاتق أي قيادة سياسية هي تحويل الاحلام الى حقائق، او ابتداع أحلام ممكنة التحقيق، وتجنب الخيارات الصعبة المؤلمة، وابعادها من الطاولة قدر الإمكان، فليس من السهل على أي قيادة سياسية إعادة الثقة لاتباعها عندما تجهض احلامهم، وعندما تقودهم في دروب وعرة تدمر كل نجاحاتهم ، والقيادة الكوردية القائمة في الإقليم عليها ان تدرك: ان الكورد في العراق حققوا الكثير من النجاح بدمائهم وصبرهم طول الحقب الماضية، وهم اليوم بحاجة الى ترسيخ نجاحاتهم، وحماية منجزاتهم من خلال الشراكة الفاعلة مع بقية مواطنيهم لإكمال مهمة بناء الدولة الديمقراطية الحقيقية في العراق، وتحمل كافة التحديات والعقبات التي يتطلبها ذلك. اما ان تأتي هذه القيادة في منتصف الطريق نحو الديمقراطية، وتعلن عدم استعدادها اكمال الطريق بحجج شتى، وتحاول تبرير عجزها او فشلها او اطماعها من خلال طرح مشروع الانفصال، فهي ترتكب خطيئة سياسية غير محتملة ؛ لأنها تصيب بالإرباك الوعي السياسي للكورد، فلا هم قادرين على التكيف مع وجودهم الأصيل في الدولة العراقية القائمة، ليطالبوا بالحقوق والحريات التي يسعى للحصول عليها جميع العراقيين، ولا هم ضامنين لقيام دولتهم المستقلة التي توفر لهم الامن والسلام والكرامة.
انه الخوف فقط ما تزرعه القيادة الكوردية للسيد بارزاني في قلوب شعبها: خوف من الآخر الشريك في الوطن والذي يجب التخلص منه، وخوف من الآخر المتربص على اسوار الوطن والمستعد للاندفاع لتدمير كل شيء بدون توفر إمكانية التغلب عليه. مثل هكذا مستقبل غامض وغير مأمون ما كان يجب ان يعيشه المواطن الكوردي، فيما الحل ليس عسيرا، بل هو واضح تماما وهو: على القيادة الكوردية ان تفسح المجال لشعبها ليحيا بصورة طبيعية في دولته المعترف بها دوليا، وان يحقق حلمه من خلالها، وأن تسعى لتذليل كل العقبات والتحديات التي تعترض طريقه، ولتتذكر ما قاله اقدم خبراء الاستراتيجية (سون تزو): ” لا يجب على الحاكم أن يضع قواته في الميدان استجابة لثورة غضب، ولا يجب على القائد أن يخوض معركة فقط بسبب جرح طال كبريائه”؛ لأنه ” عندما يتم تدمير مملكة بأكملها فلا يمكن اعادتها كما كانت من جديد: الموتى لا يعودون الى الحياة”. (سون تزو، فن الحرب، ص 159).