الحكم الرشيد على طريق التنميةالسياسية

      التعليقات على الحكم الرشيد على طريق التنميةالسياسية مغلقة

بقلم : أ. د. سامر مؤيد

مركز الدراسات الاستراتيجية                                                   نيسان 2020

ترافق ظهور مفهوم الحكم الراشد مع تطور مفهوم التنمية ؛ فبفضل الاهتمام بالرشادة في الأداء السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، تغيرت مفاهيم التنمية  وانتقل الاهتمام من قضايا التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية  المستدامة  التي تهدف الى بناء نظام اجتماعى عادل ورفع القدرات البشرية بعد  توسيع خيارات الموطنين وإمكاناتهم والفرص المتاحة لزيادة مشاركتهم وتوسيع نطاق الحرية المتاح لهم  ؛ وهو الامر الذي يتطلب التخطيط الطويل المدى ليس للموارد الاقتصادية فحسب بل للتعليم والسكن والبيئة والثقافة السياسية والتركيب الاجتماعى ايضاً ، وهي المعايير التي روج لها الحكم الرشيد ؛ من هنا نشأت العلاقة بين مفهوم الحكم الرشيد والتنمية  بوجه عام ، لأن الحكم الرشيد هو الوسيلة لتحويل النمو الاقتصادي إلى تنمية مستدامة  .       وقد كان الاتجاه الى تبني الحكم الرشيد كخيار سياسي ، نابع في جوهره من الاقرار المبدأي بوجود أزمة في طريقة الحكم ، وتراجع في قدرة الدولة وفاعليتها ا في ادارة المؤسسات العامة وفرض مركزيتها عليها في مواجهة عصف المتغيرات الدولية  المتسارعة التي اخترقت حواجز السيادة لهذه الدول واضعفت مركزيتها  . من جانب اخر يعكس الاحتكام الى خيار الحكم الرشيد فشل أو ضعف الأشكال التقليدية في معالجات الدولة والسلطة المركزية فيها – تحديدا – للإشكالات والتحديات المعاصرة التي باتت تواجهها باستمرار . ولما كان الحكم الرشيد يقوم على أساس و جود سلطة سياسية تتمتع بالشرعية و ذات بعد شعبي أي أنها وصلت إلى الحكم عن طريق الإرادة الشعبية  وبواسطة انتخاب الهيئات المركزية والمحلية بطريقة شفافة و نزيهة  وذلك بغية زيادة قدرة السلطة على احتواء الصراع الاجتماعي وتحويله باتجاه تحقيق التجانس بين القوى الاجتماعية  ، فتكون الديمقراطية – تبعا لذلك- احدى اهم مستلزمات وغايات الحكم الرشيد .       وبكل الاحوال ، فان الاحتكام الى خيار الحكم الرشيد على المستوى السياسي يأتي في نسق عملية سياسية عميقة وواسعة النطاق  اصطلحت عليها الكتابات السياسية باسم (التنمية السياسية)  التي تعد من المفاهيم الحديثة، وبعداً أساسياً من أبعاد التنمية الشاملة ؛ اذ يعرفها الباحثون بأنها ” تنظيم الحياة السياسية ومتابعة أداء الوظائف السياسية في إطار الدولة، وتطوير النظم السياسية والممارسة السياسية لتصبح أكثر ديمقراطية في التعامل” . وهذا يعني ان التنمية السياسية  شأنها شأن الحكم الرشيد  هي عملية تنطوي على تحديث البنى الأساسية للدولة والمجتمع واليات العمل فيها ، بعد اجراء مراجعة شاملة ودقيقة مع تصحيح جذري او جزئي للفكرة القانونية ( الايديلوجية ) ومنظومة القيم والمفاهيم المرتبطة بها والتي تقوم عليها تلك البنية االمؤسسية للدولة وفعالياتها المختلفة  لكن في اطار سياسي  اضيق من الاطار الشامل الذي يسعى خيار الحكم الرشيد الى تكريسه على صعيد بنية الدولة ككل ؛ أي بعبارة اخرى ان عملية التنمية السياسية  مثلها كمثل الحكم الرشيد تسعى – على الصعيد السياسي – الى خلق الظروف والشروط الملائمة للتطور الديمقراطي، وبناء النظام السياسي الشرعي والقوي والمستقر ، عبر انجاز جملة من الوظائف والاهداف التي تصب في محصلتها في خدمة مقتضيات بناء الحكم الرشيد والنظام السياسي ككل يمكن تأشيرها بالاتي  :  مراجعة واصلاح وتطوير الفكرة القانونية ( الايديلوجية ) التي تقوم عليها الدولة برمتها بعد دراسة وتجهيز الخيار الايديلوجي الاكثر ملائمة وتطورا للدولة ، مع تأمين الانتقال المدروس والتدريجي له على كل المستويات ومغادرة القوالب الفكرية النمطية او الجاهزة ، لتحقيق ما يسمى بعقلنة القرار السياسي عبر امتلاك الرؤية والتخطيط الاستراتيجي والاعتماد على التكنوقراط  واخضاع عملية اتخاذ القرار للدراسة ومناهج التحليل العلمي ، يرافق ذلك التحول في نمط التفكير السياسي من نمط المركزية الاحادية الى اللامركزية التعددية و التشاركية . مراجعة مكانة الدولة ووظيفتها : أنّ مفهوم الحكم الرشيد بوجه عام والتنمية السياسية بوجه ادق ،  قاما أساسا على فكرة التقليص من دور الدولة وهيمنتها بمفهومها التقليدي، وإعادة توزيع معظم أدوارها السابقة على مؤسسات وفاعلين جدد على رأسهم منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص. في حين أضحى دور الدولة الجديد مقتصرا على التنظيم والمراقبة، في إطار تجسيد الانتقال من مفهوم الدولة المتدخلة إلى الدولة المنظمة. وبالتالي تحولت الدولة من صفة الكل إلى عنصر من عناصر الحكم إلى جانب كل من القطاع الخاص ومختلف منظمات المجتمع المدني، والعديد من الشركات العالمية المتعددة الجنسيات ؛ وهكذا فإنّ الدور الذي أعطي للدولة بعد الاستقلال كمهيمن على كل التفاعلات قد تقلص إلى درجة كبيرة، وبرزت هيكلة جديدة طغت فيها المصالح الاقتصادية على السياسات العامة .  اصلاح وتطوير البنى والمؤسسات مع تطوير اليات عملها وتاثيرها في المجتمع ومؤسساته  ، فبدون ذلك يكون هذا المفهوم مجرد مصطلح نظري أو شعار يرفع في المناسبات فقط ، لذا، لابد أن يكون الحكم الراشد مشروع مجتمع بسائر مكوناته ، تساهم فيه أجهزة الدولة الرسمية و القيادات السياسية المنتخبة و الإطارات الإدارية ، كما يمكن بل و من الضروري إشراك المؤسسات غير الرسمية إلى جانب المؤسسات الرسمية ، كالمجتمع المدن ي ومؤسسات القطاع الخاص ، وفي هذا السياق الاصلاحي للحكم الرشيد ، تنهض التنمية السياسية بوجه خاص بالادوار الاتية : تحقيق التمايز في الأدوار والأبنية السياسية وهو ما يقتضي تعدد الأبنية ووضوح الأدوار بحيث يكون لكل بنيان أدوارهُ ووظائفهُ السياسية المحددة فلا تقتصر في هيئة واحدة، بالإضافة إلى ذلك فيجب القيام بأنواع جديدة من هذه البنية والأدوار كقيام الأحزاب السياسية وجماعات المصالح ووسائل الاتصال الجماهيري وغيرها” ، لهذا فإن النظام السياسي يتصف بالتخصص الوظيفي والتمايز وتوزيع الأدوار بين مختلف الأجهزة الحكومية والغير حكومية، مثل الهيئات التنفيذية والمجالس التشريعية والمؤسسات القضائية والأحزاب السياسية والنقابات وغيرها “وتنوع كبير من الوظائف التي تحقق إنجاز العمل السياسي” بقلة الأجهزة وتعددها وينقصها التخصص في العمل الوظيفي تعزيز القدرة: وهي تعني تنمية قدرات النظام السياسي على معالجة المشاكل مثل الانقسامات والتوترات التي تحدث في المجتمع وكذلك تنمية قدرات النظام السياسي التنظيمية والعدالة التوزيعية وكذلك الإبداع والتكيف في مواجهة التغيرات المستمرة التي يمر بها المجتمع، أي قدرة النظام السياسي على تنظيم سلوك الأفراد والجماعات في المجتمع وفقاً إلى القانون، واتخاذ القرارات الإلزامية التي تتعلق بتعبئة وتجميع الموارد البشرية والمادية وتوزيع القيم وفقاً لمبدأ المساواة ومقتضيات العدالة.   تحقيق المساواة: أي يجب أن تسود في المجتمع أحكام وقواعد قانونية تتصف بالعمومية، وهذه القواعد تنطبق على جميع أفراد المجتمع دون استثناء بغض النظر على انتماءاتهم العرقية والمذهبية أو الإقليمية. ترسيخ روح المشاركة السياسية عبر تحقيق مساهمة أوسع للشعب في رسم السياسات العامة وصنع القرارات واتخاذها وتنفيذها. ومساعدة السلطة السياسية في التعرف على رغبات واتجاهات الشعب مع  إعادة هيكلة وتنظيم بنية النظام السياسي ومؤسساته وعلاقاته بما يتلاءم وصيغة المشاركة ألاوسع للشعب في العملية السياسية  بعد وضع خطة سياسية واجتماعية للحد من العراقيل التي تواجه المشاركة السياسية . تحقيق الاستقرار السياسي للدولة : عبر ترسيخ شرعية النظام السياسي بالاستناد  إلى مبدأ سيادة القانون  والقبول الشعبي وفاعلية الأداء. ورفد ذلك بمنظومة قيمية تعكس ثقافة سياسية تسهم في تحجيم الصراعات المحتملة بين كل من الحكام والمحكومين وتحد من استخدام العنف في ظل علاقة تنافسية غير صراعية. مع ضرورة مواءمة  الهياكل الاجتماعية والسياسية للتغيرات الاقتصادية، بما يجنب النظام التعرض لمزيد من الضغوط وعدم الاستقرار، الذي يمكن أن يمثل عائقا لعملية التحول الديمقراطي.       مما تقدم يتضح ان الحكم الرشيد وان كان يعد خيارا نخبويا تعتمده الحكومات للارتقاء بدولها الا انه لا يستغن عن قاعدته الشعبية التي تمثل وفقا لهذا المنظور اداة وغاية للتغيير ، في الوقت الذي يكون فيه الحكم الرشيد – وفي كل الاحوال – وسيلة للتغيير المنشود وليس غاية له ؛ وهو بذلك يقترب كثيرا من توصيفات التنمية بابعادها الشاملة والسياسية . واذا كان الحكم الرشيد اقرب للتنمية الشاملة ، فانه يتخذ من التنمية السياسية معبرا مهما لغاياته كونه خيارا تعبويا للنخبة السياسية يعتمد في المقام الاول ادوات وفعاليات تصب بمضمونها ومحصلتها في نسق البناء الديمقراطي وتمهد له شانها في ذلك شان التنمية السياسية التي تعد وفقا لهذا المنظار جزءا فاعلا واداة مهمة من ادوات الحكم الرشيد الساعي لتحقيق الحرية والرفاهية بادوات التنمية وبرامجها .