إنشاء منظمات الأمم المتحدة- الغرض وتقييم الأداء

      التعليقات على إنشاء منظمات الأمم المتحدة- الغرض وتقييم الأداء مغلقة

الأستاذ المساعد الدكتور علي شمران
جامعة كربلاء/ مركز الدراسات الاستراتيجية
تشرين الثاني/2023
لم تنبثق منظمات الأمم المتحدة فجأة أو كحالة كمالية أو شكلية، بل جاءت بعد مخاض طويل، وبعدما دفع العالم ثمناً باهضاً لحربين عالميتين، خلفت أكثر من (70) مليون قتيل وأكثر من مائة مليون جريح ومعوق وأسير، وتدمير شامل لكثير من الدول، على سبيل المثال أوروبا تحولت إلى مدن خربة مدمرة تدميراً شاملاً، لذا جاءت الدعوى لإنشاء منظمات دولية مهمتها حفظ الأمن والسلم الدوليين، وأول تلك المنظمات هي:
أولاً: عصبة الأمم المتحدة:
لقد عصفت بالعالم حرب مدمرة استمرت من عام 1914 وحتى العام 1918، إذ حطت أوزارها بعدما بلغ عدد ضحاياها أكثر من سبعة عشر مليون قتيل، وضعفهم من الجرحى والمعاقين، وكانت صراعاً دموياً بشعاً. وحال توقف أزيز الرصاص عقدت الدول المنتصرة اجتماعاً في نيويورك، أفضى إلى تشكيل عصبة الأمم المتحدة، وقد تضمن عهد عصبة الأمم مبادئ دولية مهمة لم تكن معروفة من قبل، كمبدأ المعونة المتبادلة في حالة الاعتداء على سلامة أقاليم الدول الأعضاء، واستقلالها السياسي، ومبدأ توقيع الجزاءات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية من قبل الدول الأعضاء، في حالة خرق أحكام العهد المتضمنة تقييد الالتجاء للحرب، وأنشئت هيأة قضائية دولية للفصل في المنازعات ذات الصبغة القانونية، هي محكمة العدل الدولية الدائمة.
لكن لسوء حظ هذه العصبة توافق إنشاؤها مع صعود نجم النازية ممثلة (هتلر في المانيا)، والفاشية ممثلة (بموسوليني في إيطاليا) وأحلام التوسع للإمبراطورية اليابانية، فقاد هؤلاء الحمقى العالم لحرب عالمية ثانية امتدت من العام 1939 وحتى العام 1945، كانت الأشد فتكاً وقتلًا وتدميراً، لم يسلم منها شعب ولم تسلم منها دولة، وكادت أن تودي بالبشرية، ودفع العالم ثمناً باهضاً لها ولأهوالها وجنونها، وشهية التدمير والقتل والتعذيب والابادة الجماعية التي رافقتها. وبعد هزيمة مدوية لدول المحور، وانتصار كبير للدول المتحالفة، تعالت الدعوات بإيجاد منظمة تكون مهمتها الأساسية حفظ الأمن والسلام الدولي، وفق رؤية جديدة، وهكذا ولدت منظمة الأمم المتحدة.
ثانياً: منظمة الأمم المتحدة عام 1945م:
وهي منظمة ذات رؤيا متكاملة وأهداف سامية، وإن لم يطبق أغلبها بسبب هيمنة دول المعسكرين المتنافرين. فقد كانت الحاجة ماسة إلى تدارك الوضع المأساوي الذي صحا عليه العالم، حيث ساد الخراب، والدمار، والموت، والمآسي كل بقاع الأرض، مما دعا دول العالم المجتمعة في سان فرانسسكو في الولايات المتحدة الأمريكية في 25 ابريل إلى 26 يونيو من عام 1945م، إلى إبرام ميثاق لهيأة الأمم المتحدة، والذي نصَّ في ديباجته على تحريم اللجوء إلى القوة لتسوية المنازعات الدولية، وأصبحت الحرب لأول مرة غير مشروعة في ظل منظمة الأمم المتحدة.
وبغية تحقيق أهداف هذه المنظمة ومقاصدها، شكلت الهيئات اللازمة لذلك، فأنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة للإشراف على جميع ما يتصل بنشاط المنظمة، وهيأتها، وأنشأت مجلس الأمن الذي أنيطت به مسؤولية الإشراف على الأمن الجماعي، وحماية السلم الدولي، ومنع الاعتداء.
ويتكون مجلس الأمن من خمسة عشر عضواً يتم اختيارهم وفق آلية محددة ولفترة محددة، ما عدا الدول الخمس ثابتة العضوية، والتي منحت حق النقض الفيتو، وهي كل من: (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا)، ويعدّ المجلس الجهاز التنفيذي الأهم لهذه المنظمة، ومنح صلاحيات كبيرة بغية حفظ الأمن والسلم الدوليين، ولكن ما يعاب على قراراته أنها أسيرة رغبات وصراع المصالح للدول الكبرى المتقاطعة فيما بينها، إذ عكست قراراته طبيعة هذا الصراع في إيذاء الشعوب، كما هو حال قرارات الحصار الجائر على العراق وسوريا وليبيا وكوبا وإيران وغيرها العديد. علماً أنَّ المتضرر الوحيد من الحصار هي الشعوب، والمستفيد هي الحكومات التي دعمت موقفها وحولت اجراءات الحصار إلى حالة تعاطف شعبي معها.
تميزت مرحلة ما بعد تشكيل منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بصدور اتفاقيات جنيف الأربع للعام 1949م، والقانون الدولي الانساني، ثم تلا ذلك التوقيع على العهدين الدوليين عام 1966م، والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977م، وتعدّ هذه الاتفاقيات أهم انجاز في حاضر هذه الأجيال، إذ وفرت هذه الاتفاقيات الحماية الخاصة للجرحى والمرضى والعجزة والحوامل, ورعاية المرضى والجرحى والعجزة والمسنين من المدنيين، وأهم ما ورد بها هو السماح بمرور شحنات الأدوية والأغذية والأمور الطبية ومستلزمات العيادات المرسلة إلى المدنيين. وضرورة التفرقة بين السكان المدنيين والمقاتلين، ويفرض على الأطراف المتحاربة التمييز بين السكان المدنيين والأشخاص المقاتلين، وحماية السكان المدنيين ضد الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية. وحظر الهجمات العشوائية التي تطال المدنيين ولا تفرق بينهم وبين العسكريين، وألزمت مجلس الأمن بإيقاع العقوبة بمن ينتهك هذه المواثيق. والتي عبرت عن نقلة نوعية في احترام حقوق الانسان.
تقييــــــــــــم أداء مجلس الأمن:
لكي نكون منصفين، لابد لنا أن لا نبخس دور مجلس الأمن الايجابي في كثير من الصراعات الدامية، إذ كان موقفه حازماً، واستطاع مرات عديدة أن يمنع حدوث مجازر وحروب مدمرة، وإبادة عرقية، وتهجير قسري، وبالذات في البوسنة والهرسك وفي رواندا وفي كوسوفو, ونستعرض بعض من هذه المواقف الايجابية تمثلت بالجزاءات وتشكيل المحاكم:
أولاً- الجزاءات: وشملت ايقاع جزاءات سياسية واقتصادية وعسكرية، منها:
1- جزاءات لحفظ السلام، مثل: بعثة المراقبة بين الهند وباكستان 1956، وبعثة الرقابة الدولية في لبنان UNOFIL عام 1978.
2- جزاءات لفرض السلام، مثل: راوندا (872) 1993 كوسوفو (1244) 1999 الصومال (قرار 814)1991 الكونغو الديمقراطية.
3- جزاءات لصنع السلام، مثل: بعثة الأمم المتحدة للمساعدة الإنسانية في العراق (UNAMI).
ثانياً: تشكيل المحاكم لمحاكمة منتهكي الاتفاقيات والمواثيق الدولية والقانون الدولي الانساني، وهي كالآتي:
1- المحكمة الجنائية الدولية: التي أصدرت أمراً بإلقاء القبض، واحضار الرئيس السوداني عمر حسن البشير، لمحاكمته بتهمة إبادة وتهجير سكان إقليم دارفور السوداني.
2- محكمة نومبرغ‌ والتي حاكمت كبار قادة النازية، وأصدرت أحكاماً بإعدام بعض المجرمين.
3- محكمة طوكيو: التي حاكمت القادة الإيطاليين الفاشست.
4- المحكمة الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب اليوغسلافية، والتي أصدرت أمراً بإلقاء القبض على رئيس يوغسلافيا، الذي قاد عمليات الإبادة والتهجير والقتل للمسلمين في البوسنة والهرسك والكروات والالبان في كوسوفو ومات في التوقيف.
5- المحكمة الخاصة في رواندا والتي حاكمت كبار المجرمين.
6- محكمة العدل الدولية.
لقد كان للقيد الذي كبل هذا المجلس، المتمثل بمنح حق النقض (الفيتو) للدول الخمس الكبرى، والذي استخدم لحماية مصالحها دون أن تعير أي اهتمام لشعوب العالم الثالث. وما يعاب عليه هو وقوعه تحت هيمنة قوتين متصارعتين ومتنافرتين، هما: الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، ويبقى الموقف الفرنسي أسير مصالحها، ويميل للموقف الأمريكي الذي أساء كثيرا لدور هذه المنظمة ومهمتها.
لذا فالجانب السلبي، يتمثل في أنَّ النظام العالمي تتحكم به هذه القوى العظمى والكبرى، بما يعبر عن ارادتها ومصالحها، والغاية منه لوي أعناق دول العالم الثالث، إلى ما يتلاءم ويتناسب مع ما تريد، بصرف النظر عن الحق والعدل، وعن السلام والأمن والاستقرار في العالم، الذي تتبجح به عندما يتعلق بمواطنيها، في حين يصبح أداة لضرب الدول والشعوب، بحجة حقوق الانسان عندما تتعارض مصالحها.
فكل الوقائع والحوادث والحروب والنزاعات، التي جرت في السابق وتجري الآن، وبالذات في فلسطين وغزة كأحدث تطبيق لازدواجية ومهزلة العالم المتمدن شكلاً، إذ لم يستطع حتى ايقاف مجزرة كارثية لشعب غزة، ولم يجرِ البحث فيها أو عن حلول لها، بما يستوجب العدل والحق، أو على قاعدة القانون الدولي، بل على قاعدة المعايير المزدوجة، أي الكيل بمكيالين. فهرولت دول هذا العالم بأساطيلها ورؤسائها لتعلن دعما وتأييدا لقتل أطفال غزة.
هذه السياسة التي تتبعها القوى العظمى والكبرى، الأعضاء الدائميين في مجلس الأمن الدولي؛ أسهمت أو ساعدت في إطالة أمد الحروب والنزاعات في العالم الثالث. ونلاحظ أنَّ كل الحروب والنزاعات جرت وتجري بأذرع الوكلاء، وما هي إلا تلبية لأهدافهم ذات الأبعاد الاستراتيجية، لتصبح الشعوب هي الضحية وهي حطبها في الوقت نفسه، مع أنَّها ليست حربها، أو نزاعاتها، وما أقصده أغلبها وليس جميعها، فهناك حروب يشعلها المقاومون لتحرير أوطانهم من الاحتلال، أو الاحتلال الاستيطاني كما هو حاصل للفلسطينيين.
لقد أخفق مجلس الأمن في فرض احترام لقراراته الصادرة بحق اسرائيل والبالغة (أكثر من (74) قرارا)، في حين ضربت اسرائيل عرض الحائط كل القرارات الدولية، بل تمادت في انتهاك تلك القرارات وارتكبت جرائم مستمرة أكثر وحشية. ولم ينبرِ مجلس الأمن لفرض احترام لقراراته، في حين استخدمت اسرائيل التسويف والمماطلة والاستخفاف بكل ما صدر.
ويبقى موقف مجلس الأمن في ايقاف المجزرة البشرية، التي تتنافى مع كل القيم والمواثيق والعهود الدولية، وبالذات القانون الدولي الانساني، إذ تجري وعلى مشهد الكل جرائم الابادة البشرية، والقتل العمد، والتجويع والتهجير، وتدمير المنشآت المدنية، والمستشفيات والمدارس والعمارات، في رسالة واضحة مفادها أنَّ كل ما اتفقت عليه البشرية، لا يلقى أي احترام لدى هذا الكيان المارق، والمشكلة الأكبر أنَّ دعاة حماية حقوق الانسان هم من يقدم الدعم المادي والمعنوي والعسكري لإسرائيل، بل يدعوها البعض لتدمير غزة وقتل أهلها. أثبتت تجربة غزة أنَّ الضعفاء هم من يجرون خلف هذه القوانين، وأنَّ الدول الكبرى تفصلها حسب ما تريد، ولا توجد شرعة دولية حقيقية في حقيقة الأمر، والقرارات الظالمة التي صدرت بحق العراق وسوريا وليبيا مصداقا لذلك.