المنزلق الأخطر

      Comments Off on المنزلق الأخطر

تمارا كوفمان ويتس: زميلة أولى ومديرة مركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز. شغلت منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى من شهر نوفمبر 2009 وحتى يناير 2011

معهد بروكينغز

15/3/2016

ترجمة: هبة عباس

مراجعة: ميثاق مناحي العيساوي

وصل الرئيس أوباما إلى السلطة ووعد بفتح صفحة جديدة وإغلاق فصل من التاريخ الأمريكي الذي شهد حربين في منطقة الشرق الأوسط الكبير، وأن تمسكه بهذا الوعد يثير الإعجاب و جاء نتيجة للدروس التي تعلمها من أخطاء الرؤساء السابقين له وحاول تجنبها ولا سيما المتعلقة باستخدام القوة العسكرية في الخارج.

لكن المفارقة هي أن إصراره على إغلاق هذا الفصل, قاده إلى اتخاذ قرارات فتحت فصلاً جديداً يشبه سابقه، ويمكن أن يعزى سبب هذه الحرب الجديدة على “داعش” -حرب أوباما – التي بدأت في شهر آب ٢٠١٤ إلى خطأين في التقدير، إذ تكشف المقابلة التي أجراها الصحفي جيفري غولدبيرغ بشأن عقيدة اوباما أن هذين الخطأين حدثا بفعل إصرار الرئيس أوباما على وعوده للشعب الأمريكي وتجنب أخطاء الماضي.

الخطأ الأول: هو انسحاب أوباما من العراق الذي لم يشمل سحب القوات الأمريكية فقط بل تراجع الزخم والنفوذ الدبلوماسي اللذين لو تم استخدامهما بالشكل الصحيح لأصبح وقع انهيار التجربة السياسية العراقية أخف، وبالتالي كبح صعود ” داعش”. قررت إدارة أوباما بعد إجراء الانتخابات في العراق عام ٢٠١٠ اتباع نهج عدم التدخل في الشؤون السياسية الداخلية للعراق، لكنها لم تتمكن من إيجاد بديل للتواجد العسكري الأمريكي في العراق بمجموعة من الشراكات المدنية والاقتصادية من أجل المحافظة على النفوذ الأمريكي. في عام ٢٠١١، أثناء عملي على سياسة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية، كانت الولايات المتحدة تخطط لتخفيض عدد البرامج المدنية المخصصة للعراق جنبا إلى جنب مع تقليل الوجود العسكري. وفي العامين التاليين تم تخفيض المساعدات الاقتصادية للعراق بنسبة٥٠٪، وعلمت الولايات المتحدة بالضرر الذي كان يتسبب به سلوك رئيس الوزراء العراقي السابق “نوري المالكي” الطائفي والمتعطش للسلطة على الأمن والاستقرار في العراق (كما ترى الكاتبة)، لكن الرئيس أوباما ونائبه بايدن الذي كان يدير ملف العراق نيابة عن رئيسه، عملا على تقويض المالكي عندما بدأ بفسخ الصفقات السياسية المبرمة بين السنة والشيعة والأكراد ضمن العراق الفيدرالي.

انتقد حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة تزايد النفوذ الإيراني في الوقت الذي تراجع فيه نفوذ الولايات المتحدة، وكانوا يخشون أن تؤدي الخطوات التي اتخذها المالكي ضد السياسيين السنة إلى تأجيج العنف المدني، لكن البيت الأبيض تجاهل مخاوفهم في كل من العراق وسوريا. كما أرسلت دول الخليج دعمها الخاص إلى العشائر السنية في غرب العراق والفصائل التي تحارب نظام بشار الأسد في سوريا، الأمر الذي أدى إلى تأجيج نيران الطائفية وسمح للمتطرفين بمنافستهم. وفي الوقت الذي بدأ فيه “داعش” بتأسيس موطأ قدم بين السكان السنة المنشقين عن الحكومة المركزية، لا ترى الإدارة الأمريكية أي سبب يدعوها للاستمرار في إقناع المالكي بتحقيق تسوية سياسية يمكنها تهدئة المقاتلين العراقيين السنة ولمّ الشمل العراقي من جديد، وهذا لا يعني أن أوباما قد نجح، لكنه لم يحاول لأنه أراد فتح صفحة جديدة في تاريخ العراق.

الخطأ الثاني: أثبتت قراءة أوباما للصراع السوري – التي تفترض بأن آثار هذا الصراع ستكون محدودة على المصالح الأمريكية – الفشل في تعلم الدروس من التسعينات، وإدراك خطر امتداد الحرب الأهلية السورية بطريقة تؤثر بشكل مباشر على المصالح الأمريكية. وفي عامي ٢٠١٢-٢٠١٣ لم تكن هناك حاجة إلى تطبيق دروس أخرى في سوريا غير الدروس التي ركز عليها أوباما، إذ أظهرت تجربة التسعينات كيف أدى إهمال الحرب الأهلية إلى ظهور حركات جهادية عنيفة مثلما فعلت الحرب في أفغانستان لطالبان في منتصف التسعينات، ويمكن أن يؤدي تدفق اللاجئين إلى زعزعة استقرار الدول المجاورة لسوريا مثل الأردن وتركيا، وكما نعلم أن تنظيم “داعش” استغل الفراغ الأمني والحكومي الذي حدث بفعل الحرب الأهلية لتوسيع قاعدته المالية والإقليمية التي تسعى الولايات المتحدة إلى تقويضها منذ عام ٢٠١٤.

ترك هذان الخطئان في الفهم والتقدير الناتجان عن التزام الرئيس بتجنب أخطاء الماضي عددا من المخاطر على الأمن الإقليمي دون معالجة، وساعدا على تنامي تهديد “داعش” لدرجة أجبرت أوباما على تغيير خياراته وإرسال جنود وأسلحة أمريكية إلى العراق لمحاربة الإرهابيين، ويحدث الأمر ذاته الآن في سوريا. كما دفعت أخطاؤه الشركاء الإقليميين القلقين إلى اتخاذ مبادرات خاصة بهم لتعزيز مصالحهم التي شعروا بتجاهل أوباما لها، متغاضين عن خطر الجهاد، مما أدى إلى إشاعة الفوضى والطائفية التي يتغذى عليها “داعش”.

يخشى أوباما من الانزلاق في حرب ضد بشار الأسد في سوريا لكن الحرب ضد “داعش” هي المنزلق الأخطر. ففي أقل من عامين انتقلت الإدارة من الضربات الجوية إلى إرسال أكثر من ٤٧٥ مستشارا عسكريا إلى العراق، وأكثر من ٤٠٠٠ مقاتل من القوات البرية بما فيها قوات العمليات الخاصة في العراق وسوريا. وفي الوقت ذاته، أجبر أوباما على تحديد الضربات الجوية في ليبيا مع النظر في وضع خطط تشمل زيادة التدخل العسكري هناك، وبناء التزامات عسكرية مع الدول السنية في الخليج. وإذا كانت مقالة غولدبيرغ دقيقة، فإن الرئيس يفعل الخطوتين الأخيرتين ضد قناعاته الشخصية، لذا فالرئيس الذي رفض شعار “حرب أهلية على الإرهاب” عام ٢٠١٣ نراه يشنّ واحدة الآن.

وفي الوقت ذاته، فإن الهوّة الكبيرة بين إصرار أوباما على هزيمة “داعش” وتركيز شركائه الإقليميين على هزيمة إيران والأسد, تعني أن أمريكا تجد عددا قليلا من الشركاء يتقاسمون معها عبء هذه المعركة التي يطلق عليها الجنرالات الأمريكيون اسم “صراع الاجيال”. ويسعى أصدقاء أمريكا الإقليمون إلى الدفاع عن مصالحهم التي لا تنسجم دائما مع المصالح الأمريكية، وقد تسبب عدم قدرة أوباما على رؤية الصراعات بين سياسته في سوريا وسياسته ضد “داعش”، وتحفظه على القيام بهذا العمل لمناقشة الأولويات المشتركة مع دول الخليج وتركيا وإيران، مشكلة أكثر تكلفة ومن الصعب حلها، ومثال على ذلك: أدى تسهيل أوباما ودعمه لحرب المملكة العربية السعودية على اليمن إلى توفير بيئة عمل أكثر ملاءمة لـ”داعش” في شبه الجزيرة العربية.

وأخيراً، فإن ماقام به أوباما من تردده في استبعاد المالكي وارتباكه أمام الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس عبد الفتاح السيسي عام ٢٠١٣ وعودته الآن إلى عقد شراكات أمنية غير مدروسة مع دول الخليج بحجة محاربة “داعش”، تشير ليس فقط إلى خوفه من التورط العسكري، بل من أي نوع من التورط أو أي استثمار غير مضمون للنفوذ الأمريكي للسعي إلى تحقيق نتائج في مناطق لا تتفق مصالحها المحلية مع مصالح واشنطن. ويتضح هذا من خلال تخلي أوباما عن أي جهد عسكري منسق للتوصل إلى تحقيق استقرار دائم في الشرق الأوسط، وإن تقدير أوباما الاستراتيجي الخاص الذي أعلن عنه عام ٢٠١١ هو إمكانية تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال معالجة الخلل الحكومي. لكن بعد الإعلان الأول عام ٢٠١١، أظهر الرئيس أوباما جاهزية قليلة لاستثمار رأس مال سياسي أو بناء منابر للمشاركة الجادة في إصلاح الفوضى والاضطراب والنقص الذي يرافق النمو الديمقراطي، وقام على العكس من ذلك بتقليص التمويل.

يستخدم أوباما الآن القوة لقتال “داعش” بعد فشله في تطبيق أفكاره بشأن أسبقية الحكم، ويتجاهل العمل اللازم لوضع بديل لها، وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة لمشروع مكافحة “داعش” الذي أطلقه، إذ سيحمل رئيس الولايات المتحدة القادم نفس المشاكل مع العرب والمتمثلة بالأخطار الأخلاقية والالتزامات الأمنية التي يمقتها أوباما، ومن المؤكد أن ضعف مؤسسات الدولة وعدم شرعيتها واستمرار الصراعات الاجتماعية في المجتمعات العربية سيجعل عملية الإصلاح السياسي طويلة ومؤلمة. تعد هذه التحديات من موروثات الاستبداد التي لا مفر منها، وسوف تظهر بغض النظر عن كيفية أو توقيت انهيار الأنظمة في المنطقة، وهي ليست نتيجة للتدخل الأمريكي، وليست دليلاً على عدم نجاح التدخل الأمريكي في ليبيا، لكن الذي لم ينجح هو استمرار اعتماد الإدارة على الجدل الدائر حول المنحدرات الزلقة وحكمة ضبط النفس لإسقاط أي مقترحات يمكنها تعميق المشاركة في حل المشاكل الإقليمية وخاصة المشاركة غير العسكرية. ربما تكون المناقشة السياسية قد نجحت في الأماكن العامة “شعبياً”، لكنها فقدت هدفها السياسي.

تعد هذه مفارقة مأساوية، إذ وصل الرئيس الذي انتخب وتمت إعادة انتخابه على خلفية إنهاء الحروب في الشرق الأوسط إلى نهاية رئاسته بالنتيجة نفسها التي ورثها وشجبها وأقسم على تجنبها، ألا وهي حرب ضد عدو إرهابي غامض ليست له حدود جغرافية ولا أهداف عسكرية أو استراتيجية، ودون مباديء توقف التدهور في هذا المنحدر الزلق.      

وجاء تركيز أوباما على تجنب المشاحنات جنبا إلى جنب مع الفشل في احتساب المخاطر وخاصة تلك التي تنتج عن التقاعس. يجب أن يكون هذا درساً لنا جميعاً وربما لأولئك الذين يعتقدون أن أوباما كان محقا في عدم التدخل في الحرب السورية ومحقاً اليوم في الندم على تدخله في ليبيا الذي يعد فشلاً.

الدرس الذي تعلمناه هو أن التقاعس ليس أفضل من العمل كخيار أخلاقي في السياسة الخارجية بل يعد خيارا وله عواقب. تعد الولايات المتحدة قوة عظمى رسخت نفوذها في العالم من خلال مجموعة من الاستحقاقات الأخلاقية، لذلك لخياراتها آثار عالمية ومسؤولية أخلاقية، ولا يمكن للمرء تجنب المسؤولية الأخلاقية لهذه الخيارات التي يكون استخدامها ضروريا لتبرير استخدام القوة العسكرية الأمريكية. وفي حال استمر أوباما بتذكير غولدبيرغ أن شغله الشاغل هو خطر استخدام القوة على الشعب الأمريكي وليس على المواطنين في المناطق الأخرى، كما تذكرنا الحرب الجديدة على “داعش” بأن التهديدات التي تلحق بالآخرين عندما لم تتم معالجتها ستؤثر على العتبة الأمريكية بطريقة يراها ويشعر بها المواطن الأمريكي.

إن أخذ السياسة الخارجية والمسؤولية الأخلاقية للقوة الأمريكية على محمل الجد يعني الاعتراف بأن هناك عواقب لخيارات الولايات المتحدة, وأن على صناع السياسة اختيار الطريق الصحيح على الرغم من عدم توفر المعلومات الكاملة والكافية. لا يمكن أن تتجنب القوة العالمية هذه الفوضى ببساطة وتتجاهل المخاطر وتتطلع إلى مطاردة الفرص الاستراتيجية، وإن القيام بذلك يمكن أن يضيع أفضل الفرص بسبب المشاكل التي لم تعالج، وإن تأخير معالجة المشاكل يعني عدم الرغبة في حلها.

هذا هو السبب الذي يدفعني إلى عدم إدانة إوباما في هذه المرحلة الجديدة من الحرب العالمية على الإرهاب، وأعتقد أن على من يدعمه ممن صوتوا لوضع حد للحروب القيام بالشيء نفسه. أنا أثني عليه لأنه أدرك خطورة التهديد الذي يشكله “داعش” على الأمن الإقليمي والدولي، وأعترف بأن خياراته التي التزم بها لمدة طويلة لايمكنها الوقوف بوجه هذا التحدي. أتمنى لو يعترف بأن تردده في مواجهة المخاطر كان سببا في الوصول إلى هذه المرحلة، وأن الدروس التي تعلمها من الرؤساء السابقين له كانت ناقصة.

http://goo.gl/ZWiRTf